Friday, 20 February 2009

تــتـــــمـــة مــخــتصـــر قــصـــــة مــكـــــــة

حصار النبي في شعب أبي طالب
منطقة شعب أبي طالب

كان أبو طالب عمُّ رسول الله مراقِبًا للوضع من بعيد
فخشي على ابن أخيه من إيذاء قريش وبطشهم
فقرَّر أن يجمع بني عبد مناف لنصرة رسول الله فوافق الجميع، مسلمهم وكافرهم؛
حمية للجوار العربي، الأمر الذي أصبحت معه مكة على أعتاب أزمة خطيرة،
وأصبحت المواجهة بين بني عبد مناف وبين بقيَّة قريش حتميَّة لا مناصَ منها،
وحينئذٍ أخذت قريش قرارًا خطيرًا هو المقاطعة
وتفعيل سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف،
والتجويع الجماعي لهم، كفارًا ومسلمين، واتفقوا على ألا يناكحوهم، ولا يزوِّجوهم ولا يتزوَّجوا منهم، ولا يُبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلِّموهم،
وأن لا يقبلوا من بني هاشم وبني المطَّلب صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة
حتى يُسْلموا رسول الله لهم للقتل!!
وهنا بدأت حِقبة جديدة من المعاناة والألم،
حيث حُوصِر المسلمون والمشركون من بني عبد مناف
ومعهم أبو طالب في "شِعْبِ أبي طالب
وقد بلغ الجهد بهم حتى إنه كانت تُسمع أصوات النساء والصبيان
وهم يصرخون من شدَّة الألم والجوع، وحتى اضطروا إلى أكل أوراق الشجر والجلود، وقد ظلَّت تلك المأساة البشريَّة طيلة ثلاثة أعوام كاملة،
حتى جاء شهر المحرم من السنة العاشرة من البعثة،
وشاء الله أن يُفكَّ الحصار البشع عن بني هاشم وبني عبد المطَّلب،
وكان ذلك على يد ثُلَّة من مشركي قريش جمعتهم النخوة والحميَّة القبليَّة،
ثم بفضل آية قاهرة من آيات الله تمثَّلت في الأَرَضَة التي أكلت جميع ما في الصحيفة التي اتَّفقوا عليها، من جَوْر وقطيعة وظلم، إلا ذكر اللَّه !!
وبعد هذا الحصار وفي هذه السنة - العاشرة من البعثة -
مرض أبو طالب عمُّ رسول الله وأحسَّ الجميع بأنه مرضُ الموت،
وخافت قريش أن تُعاب بعد موته إن هي آذت رسول الله
فكوَّنت وفدًا من زعمائها إلى أبي طالب
يعرضون عليه أن يكفُّوا عن إيذاء رسول الله ويكفَّ هو عن إيذائهم بما يدعوا إليه
فما كان من رسول الله إلا أن قال: "يَا عَمُّ، أَفَلا تَدْعُوهُمْ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ؟"
قال أبو طالب: وإلامَ تدعوهم؟
قال: "أَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَيَمْلِكُونَ بِهَا الْعَجَمَ". فقال أبو جهل بلهفة: ما هي؟ ثم أقسم: وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها.
فقال رسول الله في ثبات: "تَقُولُونَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهَ. وَتَخْلَعُونَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ". فصفَّقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟ إن أمرك لعجب!!
ثم إن بعضهم قال لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئًا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه. ثم تفرَّقوا!!
*********************************************

عـــام الـــحــــــزن

من قرى دوس القادمة من اليمن ( قبيلة من زهران ) وهي أرض الصحابي الجليل أبو هريرة ( عبدالرحمن بن صخر الدوسي



حدثت للمسلمين مصيبتان كبيرتان في هذه السنة، الأولى هي موت أبي طالب،

عمِّ رسول الله والسند الاجتماعي المهمّ له،

والثانية وفاة خديجة رضي الله عنها، زوج رسول الله والسند العاطفي والقلبي له!!
وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيَّام معدودة،


فازدادت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله وزاد عليه ما كان مِن تجرُّؤ المشركين عليه،

حيث كاشفوه بالنكال والأذى بعد موت عمِّه أبي طالب، فازداد غمًّا على غمٍّ حتى يئس منهم،

وخرج إلى الطائف؛ رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يُئووه وينصروه على قومه، فلم يرَ ناصرًا ولم يرَ مَن يُئوي،

بل تطاولوا عليه وأَغْرَوْا به سفهاءهم الذين رَمَوْهُ بالحجارة هو ومولاه زيد بن حارثة،

حتى دَمِيَتْ قدمه الشريفة، وشُجَّ رأس زيد، ولم يزل به السفهاء حتى ألجئُوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة،

فلما التجأ إليه رجعوا عنه، وأتى رسول اللَّه إلى حَبَلَة من عنب وهي شجرة العنب فجلس تحت ظلِّها إلى جِدَار، فلمَّا جلس إليه واطمأنَّ، ودعا بالدعاء المشهور الذي يدلُّ على امتلاء قلبه كآبة وحزنًا ممَّا لقي من الشدَّة، وأسفًا على أنه لم يؤمن به أحد.
ولما رآه ابنا ربيعة تحرَّكت له رحمهما، فدَعَوْا غلامًا لهما نصرانيًّا يقال له: عَدَّاس.

قالا له: خُذْ قِطْفًا من هذا العنب، واذهب به إلى هذا الرجل.

فلمَّا وضعه بين يدي رسول اللَّه مدَّ يده إليه قائلاً: "بِاسْمِ اللَّهِ". ثم أكل،

فقال عَدَّاس: إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال له رسول اللَّه : "مِنْ أَيِّ الْبِلادِ أَنْتَ؟ وَمَا دِينُكَ؟"

قال: أنا نصراني، من أهل "نينوى". فقال رسول اللَّه : "مِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى؟"

قال له: وما يُدريك ما يونس بن متَّى؟ قال رسول اللَّه : "ذَاكَ أَخِي، كَانَ نَبِيًّا وَأَنَا نَبِيٌّ".
فأكبَّ عَدَّاس على رأس رسول اللَّه ويديه ورجليه يُقَبِّلُها. فقال ابنا ربيعة أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلمَّا جاء عَدَّاس قالا له: ويحك! ما هذا؟ قال: يا سيدي، ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل،

لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي. قالا له: ويحك يا عَدَّاس! لا يصرفنَّك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.
ثم رجع رسول اللَّه في طريق مكة بعد خروجه من الحائط كئيبًا حزينًا،

وقد بعث اللَّه إليه جبريل ومعه ملك الجبال يستأمره أن يُطْبِق الأخشبين على أهل مكة،

فقال النبي: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"

ودخل رسول الله مكة في إجارة "المُطْعِمِ بن عديٍّ"، الذي قَبِلَ إجارته

وحَذَّرَ قريشًا من أن يُؤذوا رسول الله ما دام في جواره

فقد بذل النبي عليه الصلاة والسلام جهدا شاقا في مكة ولم يتوقَّف عن الدعوة، وقد انتهز فرصة موسم الحج

ليدعو القبائل والوفود إلى الإسلام ونصرة هذا الدين، فكان يأتيهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم الإسلام ويدعوهم إليه،

ولم يستجب أحد منهم في هذه السنة،

ومن هذه القبائل: بنو كلب، وبنو حنيفة الذين لم يكن أحد من العرب أقبح ردًّا على رسول الله منهم.
وفي خِضَمِّ هذه الأحداث التي اشتدَّ وقعها على رسول الله تُوُفِّيَتْ زوجه خديجة وعمُّه أبو طالب

في السنة العاشرة من البَعْثة، وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان فازدادت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله

ففكَّر رسول الله أن يخرج بدعوته من مكة، فاتَّجه إلى أكبر القبائل بعد قريش وهي قبيلة ثقيف بالطائف؛

رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يُئْوُوه وينصروه على قومه، فلم يرَ ناصرًا ولم يرَ مَن يُئوي،

وقد قال له أحدهم: أما وجد الله أحدًا يرسله غيرك؟
وقال آخر: والله لا أكلمك أبدًا... لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أردَّ عليك الكلام،
ولئن كنتَ تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلِّمَك!
وهنا قام رسول الله من عندهم وقد يئس من خيرهم

وقال لهم: "إِذْ قَدْ فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَنِّي". إلاَّ إنهم لم يفعلوا، بل تطاولوا عليه
وأَغْرَوْا به سفهاءهم الذين رَمَوْهُ بالحجارة هو ومولاه زيد بن حارثة، حتى دَمِيَتْ قدمه الشريفة، وشُجَّ رأس زيد،
ولم يزل به السفهاء حتى ألجئُوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهناك التجأ إلى شجرة وأخذ يدعو بالدعاء المشهور: "اللَّهُمَّ إلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلا أُبَالِي....

وفي العام التالي وهو العام الحادي عشر من البعثة كان قد أسلم على يدي رسول الله من خارج مكة أربعة من الرجال: سويد بن صامت من قبيلة الأوس بيثرب وكان شاعرًا،
وإياس بن معاذ وكان صغيرًا في السن بين الثانية عشرة والثالثة عشر،

وكان إسلام الاثنين الآخَرَيْنِ فتحًا على المسلمين؛ إذ جاء كل واحد منهما بقبيلته بعد ذلك مسلمة،
الأول هو أبو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ وقبيلته هي غِفَار، والتي قال عنها النبي : "غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا"
والثاني هو الطفيل بن عمرو الدَّوْسِيُّ وكان سيد قبيلته دَوْسٍ من قبائل اليمن،

وقد جاء إلى الرسول في المدينة بسبعين أو ثمانين بيتًا من دَوْسٍ، كلُّ بيت كان يضمُّ عددًا كبيرًا.

**********************************************

رحلة الإسراء والمعراج - و بيعة العقبة الأولى




منَّ الله علي رسوله برحلة الإسراء والمعراج
هناك اختلاف بيِّن في زمن الإسراء والمعراج، فقيل: قبل الهجرة بسنة. كما ورد أنه كان في رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا، وحكى أنه كان في رجب،وحكى أنه كان قبل الهجرة بثلاث سنين ويُعلِّق الشيخ أبو زهرة فيقول: "وننتهي من هذا بأن علماء السيرة النبوية مختلفون في تعيين اليوم الذي كان فيه الإسراء، ولكن الواقعة ثابتة، وقد اتفقوا على أنها كانت بعد ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وردِّهم له الردَّ المنكَر، وأن كونها في ليلة السابع والعشرين من رجب ثبتت بخبر لم يصح سنده في نظر الحافظ المحدث ابن كثير...

كانت رحلة الإسراء والمعراج للرسول مواساة له ولتمسح عنه الأحزان،
وتنقله إلى عالم أرحب وأُفق أقدس وأطهر، إلى حيث سِدْرَة المنتهى، والقُرْب من عرش الرحمن,
ولتعدُّه إعدادًا خاصًّا لمرحلة أكبر وأعظم؛ وهي مرحلة إقامة الدولة الإسلاميَّة العالميَّة التي تنشر الهدى والحقَّ للعالمين وقد كان من حكمته إزاء ما كان يلقى من أهل مكة من التكذيب والصدِّ عن سبيل الله
أنه كان يخرج إلى القبائل في ظلام الليل، حتى لا يَحُولَ بينه وبينهم أحدٌ من أهل مكة المشركين،
وقد خرج ليلة ومعه أبو بكر وعلي فمرَّ على منازل ذهل وشيبان بن ثعلبة وكلَّمهم في الإسلام،
ودارت بين أبي بكر وبين رجل من ذهل أسئلة وردود طريفة، وأجاب بنو شيبان بأرجى الأجوبة،
غير أنهم توقَّفوا في قَبُولِ الإسلام.
ثم مرَّ رسول الله بعَقَبَة مِنًى، فرأى ستَّة من شباب يثرب، كلهم من الخزرج، وهم:
أسعد بن زرارة، وعون بن الحارث بن رفاعة، ورافع بن مالك بن العجلان، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، وجابر بن عبد اللَّه بن رئاب،
وكان أهل يثرب يسمعون من حلفائهم من يهود المدينة: أن نبيًّا من الأنبياء مبعوث في هذا الزمان سيخرج فنتَّبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلمَّا لحقهم رسول الله قال لهم: "مَنْ أَنْتُمْ؟" قالوا: نفر من الخزرج.
قال: "مِنْ مَوَالِي الْيَهُودِ؟" أي حلفاءهم، قالوا: نعم. قال: "أَفَلا تَجْلِسُونَ أُكَلِّمكُمْ؟" قالوا: بلى. فجلسوا معه،
فشرح لهم حقيقة الإسلام ودعوته، ودعاهم إلى الله وتلا عليهم القرآن.
فقال بعضهم لبعض: تعلمون واللَّه يا قوم، إنه للنَّبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنَّكم إليه.
فأَسْرَعُوا إلى إجابة دعوته وأسلموا، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشرِّ ما بينهم،
فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين،
فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك.

********
منطقة بيعة العقبة الأولى

قبر الصحابي الجليل عبادة بن الصامت
في موسم الحجِّ التالي جاء خمسة رجال من هؤلاء الستَّة،
وقد تمكَّن الإيمان من قلوبهم، ومعهم سبعة من المسلمين الجدد
والْتَقَوْا مع رسول الله عند العقبة بمكة، ودارت بينهم مباحثات مهمَّة،

كان رسول الله حريصًا فيها على تأسيس النواة الأولى التي ستقوم على أكتافها دولة الإسلام؛
يقول عبادة بن الصامت كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله على بيعة النساء

على أن لا نُشرك بالله، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا،

ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف،

فإن وفَّيتم فلكم الجنة،

وإن غَشَيتم من ذلك شيئًا فأمركم إلى الله،، إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم.

*****************************************************

أوَّل سفير في الإسلام


تمَّت بيعة العقبة الأولى المباركة، وعاد الأنصار الاثنا عشر إلى يثرب ليستكملوا دعوتهم ونشاطهم هناك،
وقد أرسل معهم رسولُ الله مصعب بن عمير ليُعَلِّمهم أمور دينهم، وليكون أوَّل سفير في الإسلام،
ويقوم هو ومن معه من الأنصار بجهد منظَّم لجمع شمل الأنصار (الأوس والخزرج).
فبدأ مصعب وأسعد بن زرارة الخزرجي رضي الله عنهما التحرُّك لنشر الإسلام في يثرب،

فأسلم على يده أُسَيْد بن حُضَيْرٍ وسعد بن معاذ رضي الله عنهما، وهما سيِّدا بني عبد الأشهل من قبيلة الأوس،

والذي بإسلامهما لم يَبْقَ في بني عبد الأشهل بيتٌ إلا ودخله الإسلام،
ثم لم تبقَ بعد ذلك – بفضل نشاطهم في الدعوة - دار من دور يثرب إلا وفيها رجال ونساء مسلمون،
ثم عاد مصعب بن عمير قبل موسم الحجِّ في العام الثالث عشر من النبوَّة إلى مكة
ليخبر الرسول بإيمان الأنصار، ويوضِّح له منعة المدينة (يثرب) ومنعة رجالها، وقوَّة بأسها
وحين جاء موسم الحجِّ في العام الثالث عشر من الْبَعثة

حضر لأداء مناسك الحجِّ من أهل يثرب ثلاثة وسبعون رجلاً من المسلمين وامرأتان،
جاءوا ضمن حُجَّاج قومهم من المشركين،
وقد تساءل هؤلاء المسلمون فيما بينهم، وهم لم يزالوا في يثرب أو كانوا في الطريق:
حتى متى نترك رسول اللَّه يُطرد في جبال مكة ويخاف؟!!
بما يدلُّ على الحمية العظيمة والثبات العجيب للأنصار،
وهو ما سنراه في بيعة العقبة الثانية بعد ذلك
*****************************************************************************




لما قَدِمَ هذا الوفد مكة جَرَتْ بينهم وبين النبي اتِّصالات سرِّيَّة
أدَّت إلى الاتِّفاق على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق عند العقبة؛
وذلك ليُضَيَّق على مشركي مكة فرصة تتبُّع وفد الأنصار،

أن يتمَّ هذا الاجتماع في سرِّيَّة تامَّة في ظلام الليل؛ حيث لا يراهم أحد،

وقد تمَّ اللقاء المَهِيب عند العقبة، والتي عُرِفَتْ ببيعة العقبة الثانية أو الكبرى
والذي كان من نتائجها أن تغيَّرت خريطة العالم بعد ذلك وقامت للإسلام دولة.
التقى رسول الله بالأنصار في العقبة، وبدأ العباس الكلام،

وكان ما زال مشركًا إلا أنه أحبَّ أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثَّق له؛

فَبَيَّنَ للأنصار مكانة رسول الله في بني هاشم، ومكانة بني هاشم بمكة،

وأنه لا حاجة له بهم إذا لم يكونوا قادرين على نصرته،

فلم يكن من الأنصار إلا أن قالوا في أدب: قد سمعنا ما قُلْتَ، فتكلَّم يا رسول الله، فخذْ لنفسك ولربِّك ما أحببت.

وهنا بدأ رسول الله يضع بنود البيعة فقال: "تُبَايِعُونَنِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ،

وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المنكر

وَعَلَى أَنْ تَقُومُوا فِي اللَّهِ لاَ تَأْخُذُكُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ إِلَيْكُمْ،



ويُلاحَظ هنا تلك المفارقة بين ما طلبه رسول الله من الأنصار في بيعة العقبة الأولى

وما طلبه منهم هنا في بيعة العقبة الثانية؛
ففي الأولى كان الرسول يبني فردًا مسلمًا مؤمنًا، يتَّصف بعقيدة سليمة وبأخلاق حميدة،

ولكنه هنا يبني أُمَّة؛ فهو يحتاج لما هو أعلى وأرقى، يحتاج لمكابدة وصبر وقوَّة تحمُّل، ويحتاج لبذل وكفاح ودماء.
وقد ردَّ عليه وفد الأنصار: والذي بعثك بالحق نبيًّا، لنمنعنَّك مما نمنع منه أُزُرَنَا
؛

فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب، وأبناء الحلقة، ورثناها كابرًا عن كابر.

وقد أراد أحدُ أفراد الوفد أن يستوضح من أمر البيعة فيما يتعلَّق بعَلاقتهم باليهود،

فقام وقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين اليهود في المدينة حبالاً وإنَّا قاطعوها،

فهل عسيتَ إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتَدَعَنَا؟
فما كان من رسول الله إلا أن تبسَّم ثم قال: "بَلِ الدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ
وهنا ولمَّا قام الأنصار يبايعون، قام العباس بن عبادة الخزرجي، وهو من رجال بيعة العقبة الأولى، يخاطب قومه

وكأنه ينبِّههم إلى خطورة ما هم مُقدِمُون عليه، فقال: هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم

فقال العباس بن عبادة موضِّحًا لهم: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس،
فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهِكَت أموالكم مصيبةً، وأشرافُكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن،
فهو - والله - إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة،
وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نَهْكَة الأموال وقتل الأشراف فخذوه،
فهو - والله - خير الدنيا والآخرة
قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: "الْجَنَّةُ".

وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافَّة، وقتل خياركم، وأنْ تَعَضَّكم السيوف،
فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله
وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله.
فقالت الأنصار: يا أسعد، أمط عنا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها.
يقول جابر بن عبد الله راوي القصة: فقمنا إليه رجلاً رجلاً، فأخذ علينا البيعة يعطينا بذلك الجنة،

حتى النساء - المرأتان اللتان شاركتا في هذه البيعة - بايعتا بيعة الحرب، وكانت مبايعتهما مشافهة بالكلام وليس باليد، ثم قال رسول الله للأنصار: "أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمُ اثَنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا؛ لِيَكُونُوا عَلَى قَوْمِكُمِ بِمَا فِيهِمْ".

فانتخب الأنصار نوَّابهم بنسبة التمثيل في البيعة، فكان الخزرج يمثِّلون خمسة وسبعين في المائة من المبايعين،

وكذلك كان نوَّابهم يمثِّلون خمسة وسبعين بالمائة من النواب،
وقد قال لهم رسول الله : "أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كُفَلاَءُ كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي
وعلى الرغم أن رسول الله ومن معه من المؤمنين قد أخذوا كافَّة الاحتياطات لتأمين مكان البيعة،


ونجاحهم بالفعل في الاختفاء عن أعين المشركين، إلا أن إرادة الله شاءت أن يكشف الشيطان لأهل مكة هذا الأمر، فاجتمع زعماء قريش، وكوَّنُوا وفدًا، وذهبوا يخاطبون رئاسة الوفد اليثربي

والمتمثِّلة في عبد الله بن أُبيّ بْنِ سلول المشرك، الذي كان لا يدري شيئًا عن أمر البيعة،

فقالوا: "يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا،

وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حيٍّ من العرب أبغض إلينا من أن تَنْشَبَ الحرب بيننا وبينهم منكم".

وهنا هبَّ مشركو يثرب يدافعون عن أنفسهم، فقالوا: نحلف بالله ما كان من شيء، وما علمناه

فاقتنع وفد مشركي مكة وعادوا، ولكنهم قاموا ببعض التحرِّيَّات فعلموا أن الخبر صحيح، فأسرعوا إليهم ليدركوهم، فوجدوا أن الحجيج قد نفروا، فأسرعوا وراءهم فرأوا عن بُعْدٍ سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو رضي الله عنهما فطاردوهما، فاستطاع المنذر بن عمرو أن يهرب، فأمسكوا بسعد بن عبادة سيد الخزرج،

فقيَّدوه بالحبال وربطوا يده على عنقه، وجعلوا يضربونه ويجرُّونه ويجذبونه من شعره حتى أعادوه إلى مكة،

فجاء المطعِم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية فخلَّصاه من أيديهم؛ إذ كان سعد يُجِير لهما قوافلهما المارَّة بالمدينة، وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكروا إليه، فإذا هو قد طلع عليهم، فوصل القوم جميعًا إلى المدينة،

وبدءوا يمهِّدون الوضع هناك لاستقبال الرسول ليؤسِّسُوا النواة الأولى للعاصمة الأولى في الإسلام: المدينة المنورة
هذا، وبعد أن نجحت بيعة العقبة الثانية، وأصبح الأنصار يمثِّلون عددًا لا بأس به في المدينة المنوَّرة

وَقَبِلوا أن يستقبلوا رسول الله ويحموه، صدر الأمر النبوي لجميع المسلمين القادرين على الهجرة
أن يهاجروا إلى يثرب، ولم يبدأ هو في الهجرة إلا بعد أن هاجر الجميع إلى المدينة.
على أن معنى الهجرة هنا لم يكن يعني إلا التضحية بالأموال، وإهدار المصالح،

مع الإشعار بالهلكة في أوَّل الطريق أو نهايته،

وبأن المهاجر إنما يسير نحو مستقبل مبهم لا يدري ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان فيما بعد.

*********************************************************


سيف عمر بن الخطاب


بدأ المسلمون يهاجرون، وهم يعرفون كلَّ هذه العواقب،
وفي اللحظة نفسها أخذ المشركون يَحُولُون بينهم وبين خروجهم؛ وذلك لما كانوا يحسُّونه من الخطر،
فعلى سبيل المثال كان أبو سلمة من أول المهاجرين، فخرج هو وزوجته وابنه،

إلا أن أهل زوجه منعوها من الهجرة وأخذوها عندهم،

فجاء أقارب زوجها فأخذوا ابنها سلمة منها، بعد أن خلعوا ذراعه نتيجة لتنازعهم عليه مع أهل أبي سلمة،

فظلَّت أُمُّ سلمة تبكي لفراق زوجها وولدها وحرمانها من الهجرة مدَّة عام كامل،
حتى رَقَّ لحالها أحدهم، فردُّوا ابنها إليها، وأذنوا لها أن تلحق بزوجها، فخرجت مع ولدها منفردَيْنِ إلى المدينة،

فأخذت النخوة والمروءة عثمان بن طلحة فصحبها إلى المدينة لحراستها وتأمينها،


ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك.
فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلت لكم مالي،

فبلغ ذلك رسول اللَّه فقال: "رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَى، رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَى".
وفي حين كان أغلب الصحابة يهاجر سرًّا لِيَتَّقُوا إيذاء قريش،

فإن عمر بن الخطاب خرج وهو متقلِّد سيفه، وفي يده الأخرى عدَّة أسهم، ووقف ينادي عند الكعبة قائلاً:

يا معشر قريش، مَن أراد أن تثكَلَهُ أمه، أو يُوتمَّ ولدُه، أو ترَمَّل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي، فلم يخرج خلفه أحدٌ، بل هاجر معه عشرون من ضعفاء الصحابة
وعلى كلٍّ فقد خرج الناس أرسالاً يتبع بعضهم بعضًا، حتى لم يبقَ بمكة من المسلمين إلا رسول اللَّه وأبو بكر وعليٌّ،

أقاما بأمره لهما، وإلا من احتبسه المشركون كرهًا، وقد أعدَّ رسول اللَّه جهازه ينتظر متى يُؤمر بالخروج.
أما قريش فكانت تُفَاجَأُ كلَّ يوم بهجرة رجل أو رجلين أو عائلة، بل إن بعض الفروع من القبائل قد هاجرت بكاملها، وخَلَتْ كثير من ديار مكة من سكانها، وهو الأمر الذي أوقع فيهم سادتها ضجَّة كبيرة،

وأخذ القلق يساورهم بشكل لم يسبق له مثيل؛ إذ تجسَّد أمامهم الخطر الحقيقي العظيم

الذي أخذ يُهَدِّد كيانهم الوثني والاقتصادي.
ومن ثم لم يجد المشركون في مكة بُدًّا من أن يستأصلوا الإسلام بأنجح الوسائل في نظرهم

وذلك بالقضاء على رسول الله نفسه!!



في دار الندوة، المقرِّ الرئيسي لاجتماعات قريش، وفي صباح يوم الخميس 26 صفر من السنة الرابعة عشر للبعثة،
تمَّ عقد أخطر اجتماع لكبار الزعماء في مكة، حضره ممثِّلون عن كل القبائل القرشيَّة عدا بني هاشم،

وقد بدأت الأفكار الإجراميَّة تُطْرَحُ للمداولة، حتى أشار أحدهم - وهو أبو جهل - بقتل محمد

والوسيلة في ذلك أن يختاروا من كلِّ قبيلة في مكة شابًّا قويًّا جلدًا،

فيحاصروا بيت الرسول ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرَّق دمه بين القبائل،

ولا تجد قبيلته - بنو هاشم - أمامها إلا قَبول الدِيَةِ؛ إذ لا طاقة لهم بحرب كل القبائل.
وعلى هذا خرج زعماء قريش يدبِّرون لأمر المهمَّة التي اتَّفقوا عليها، وكان الله محيطًا بهم وهو خير الماكرين


فنزل جبريل إلى رسول الله يخبره بالمؤامرة، ويأمره ألا يبيت في فراشه الليلة،

وأن يُزْمِعَ الهجرة بصحبة أبي بكر الصديق

*************************************************************
قبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه


على الفور توجَّه رسول الله إلى أبي بكر ليخبره بأمر الهجرة في تكتُّم شديد،

وكانت سعادة الصِّدِّيق غامرة بأن اختاره رسول الله رفيقًا له في الهجرة،

بل كان على أتمِّ الاستعداد لهذه الخطوة، حتى إنه أعدَّ راحلتين للهجرة،
وهيَّأ أهل بيته لهذا الأمر، وادَّخَرَ لذلك من أمواله.
وبعد أن عاد الرسول إلى بيته وجهز نفسه، استقدم عَلِيًّا
لينام مكانه
وأعطاه برده الأخضر ليتغطَّى به، وعرَّفه بالأمانات وأصحابها،
ولما جاء وقت الرحيل والذهاب إلى بيت الصِّدِّيق اكتشف رسول الله المفاجأة،
فقد أحاط المشركون ببيته إحاطة كاملة، وجاءوا قبل الموعد الذي توقَّعه رسول الله
وهنا نزل الوحي إلى رسول الله يطمئنه، ويأمره بالخروج وَسْطَ المشركين

دون خوف أو وَجَلٍ، فسوف يأخذ بأبصارهم

وخرج الرسول في هذه الليلة المباركة،
ليلة السابع والعشرين من صفر سنة أربع عشرة من النبوَّة،
وهو يقرأ صدر سورة يس، من أوَّلها إلى قوله
{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: 9].
وإمعانًا في السخرية من المشركين، أخذ رسول الله حفنة من التراب

ونثرها على رءوس المشركين الذين حاصروا بيته وهم لا يشعرون به ولا يبصروه
ثم انطلق إلى بيت الصِّدِّيق لاستكمال تنفيذ الخُطَّة.
وبينما المشركون يحاصرون بيت رسول الله إذ مرَّ عليهم رجل فأخبرهم أنه قد رأى رسول الله منطلقا في الطريق
فلم يُصَدِّقوه، ونظروا من ثقب الباب فوجدوا عليًّا نائمًا،

فحسبوه رسول الله فاطمأنُّوا قليلاً،

ولمَّا جاء الصباح قام عليُّ بن أبي طالب من فراشه فرآه القوم فأُسْقِط في أيديهم، فأمسكوا به يجرُّونه إلى البيت الحرام ويضربونه، وحبسوه ساعة،
علَّهم يظفرون بخبرهما، ثم أطلقوه،
ليمكث في مكة ثلاثة أيام يَرُدُّ الأمانات إلى أهلها، ثم ينطلق مهاجرًا
**************************************************
إلى المدينة المنورة
ـــــــــــــــــــــــــــــ

المدينة المنورة عام 1861
المدينة الآن



وكانت خُطَّة رسول الله في الخروج من مكة أن يبدأ في أوَّل الليل إلى بيت الصِّدِّيق


ومنه بعد أن تهدأ الحركة في مكة ينتقلان بالراحلتين

بالاستعانة بالدليل عبد الله بن أُرَيْقِط للخروج من طريق غير معهود إلى المدينة
ثم يمكثان في غار ثور حتى يفقد الكفار الأمل في العثور عليهما،
ويُعيِّنُ عامر بن فُهَيْرَة ليقوم بتغطية آثار الأقدام بِرَعْيِ أغنامه حتى لا يتتبَّعهما أحد،
وكذا يقوم عبد الله بن أبي بكر بنقل أخبار قريش وإعداداتها لهم،
وتقوم أسماء بنت أبي بكر بمهمَّة حمل الزاد والطعام لهما،
وذلك في الفترة التي كَمُنَ فيها رسول الله وأبو بكر في الغار، وهي ثلاث ليالٍ

****************************************


جبل ثور أو جبل الراحة ويوجد في جهته الجنوبية غار ثور




غار ثور من الداخل



واجهة مسجد قباء قديما


أما قريش فقد جُنَّ جنونها، وأعلنت حالة الطوارئ القصوى في مكة،

وذلك حين تأكَّد لديها إفلات رسول الله ليلة تنفيذ المؤامرة،
وعليه فقد قام كبراؤها ببعض المهمَّات العاجلة
فذهب أبو جهل ومعه بعض صناديد قريش إلى بيت أبي بكر وقرعوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر،

ولما سألوها عن أبيها وأخبرتهم بأنها لا تدري، رفع أبو جهل يده فلطم خدها لطمة طرح منها قرطها!!
وفي جلسة طارئة مستعجلة قرَّرت قريش استخدام جميع الوسائل التي يُمْكِنُ بها القبضُ على الرجلين


فوضعت المراقبة المسلحة على كل مداخل ومخارج مكة،

كما أعلنت عن جائزة كبرى قدرها مائة ناقة، لمن يأتي برسول الله أو بصاحبه الصِّدِّيق حيَّين أو ميِّتين
وعلى هذا فقد جدَّ الفُرسان والمشاة وقصَّاص الأثر في الطلب،

وانتشروا في كلِّ الطرق الخارجة من مكة، ولكن من دون جدوى وبغير عائدة.
ورغم الخُطَّة البارعة والمحكمة التي اتبعها رسول الله والصِّدِّيق إلا أن المطارِدون وصلوا إلى باب الغار الذي هما فيه، ولكنَّ الله غالب على أمره، فرجعوا خائبِينَ؛


وفي ذلك يقول أبو بكر : كنت مع النبي في الغار فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم،

فقلت: يا نبي اللَّه، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: "اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا"
وهكذا لم يرَ المشركون رسول الله ولا صاحبه، ولما انقضت الأيَّام الثلاثة خرج الرسول وأبو بكر من الغار


ويشاء الله أن يلحق بهما أحدُ المشركين وهو سراقة بن مالك

الذي ما إن يصل إليهما حتى تسيخ قدما فرسه في التراب، ولا يستطيع أن يتحرَّك إلا بعد أن يأذن له رسول الله
بل ويبشِّره رسول الله بسوارَيْ كسرى، ويطلب منه أن يُخَذِّل عنهم

كما فوجئ برجل اسمه بُرَيْدَة بن الحُصَيْبِ زعيم قبيلة أسلم

وقد خرج له في سبعين من قومه يريد الإمساك به وبصاحبه ليحصل على المكافأة الكبيرة،
ولكن الرسول وقف يعرض عليه الإسلام في هدوء

فوقعت كلمات الرحمن في قلب بريدة وأصحابه فآمنوا جميعًا في لحظة واحدة!!
وبعد هذه المحنة الكبرى وصل رسول الله وصاحبه أبو بكر إلى المدينة المنورة سالمَيْنِ


وذلك في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الرابعة عشرة من النبوة،


لتبدأ مرحلة جديدة ومهمَّة في بناء أُمَّة ودولة الإسلام، ولتطوى أيضًا مرحلة العهد المكي بكل أحداثها وآلامها
والتي اهتمَّ فيها رسول الله بتربية الجانب العقائدي للأُمَّة الإسلاميَّة، وكذا جانب الأخلاق.
وكان في استقبال رسول الله في المدينة المنورة المهاجرون الذين سبقوه،

والأنصار الذين أقاموا استقبالاً حافلاً، فرحين مهلِّلِينَ بوصول رسول الله إليهم؛
مؤكَّدين بذلك حرصهم الشديد على العمل لدين الله، وأنهم سيفدونه بأنفسهم وأولادهم، وبكلِّ ما يملكون.
وما إن بلغ رسول الله مشارف المدينة المنورة، واستقرَّت رحاله في قُباء، حتى وضع الأساس لمسجد قُباء،


مؤكِّدًا بذلك على دور المسجد المهمِّ في تربية الأُمَّة وترسيخ الإيمان في قلوب
وتوطيد العَلاقات وتقوية الأواصر بين المسلمين
وبعد ذلك بُني لرسول الله حُجْرَة بسيطة تَفْتَح على المسجد،

والتي توسَّعت بعد ذلك، فكان لكلِّ زوجة من زوجات النبي حجرة
ولم يكن في هذا الوقت متزوِّجًا إلا من السيدة سودة بنت زمعة رضي الله عنها،

وكان عاقدًا على السيدة عائشة رضي الله عنها، ولم يكن قد بَنَى بها بعدُ.
***************************************************************
يــتــبـــــــع مــــا قــبـــله ومـــابـــعــــــــده بـــإذن الـلـه - قــصـــة الــمــديــنـــة الــمــنــــورة

Friday, 13 February 2009

قــصــــة مــكــــة....الجزء الثالث

الأمـــــــــــر بـــالــتــبــلــيـــــغ





ومن حكمة الله أن الوحي انقطع بعد ذلك أيامًا عن رسول الله

وذلك -كما يقول ابن حجر- ليَذْهَبَ ما كان وَجَدَهُ من الرَّوْع، وليحصل له التشوُّق إلى العودة،

فلما تقلَّصت ظلال الحَيْرَةِ، وثَبَتَتْ أعلام الحقيقة، وعرف معرفة اليقين أنه أضحى نبيًّا للَّه الكبير المتعال، وأنَّ ما جاءه سفيرُ الوحي ينقُلُ إليه خبر السماء، كما أنبأه ورقة بن نوفل، وصار تشوُّفه وارتقابه لمجيء الوحي سببًا في ثباته واحتماله عندما يعود،

جاءه جبريل للمرة الثانية، وفي ذلك قال "بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي - أي غطوني-. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1- 5].

فتغيَّرت حالة النبي من الشكِّ والارتياب وعدم التأكد من أمر النبوَّة إلى حالة من العزيمة والقوَّة والإصرار والنشاط، وهي بداءة الرحلة الطويلة الشاقَّة، رحلة التوحيد والدعوة إلى الله .

وكان هذا هو الأمر الواضح بالرسالة وبالتبليغ وبالإنذار.
ومن هنا كانت مرحلة الإعداد، أُولى المراحل في بناء الأُمَّة، وقد ظلَّت حتى غزوة بدر الكبرى،

أي ما يقرب من خمسة عشر عامًا من عمر الدعوة، وكانت معظمها في مكة المكرمة،
وقد بدأ فيها الرسول في انتقاء الأفراد الصالحين لحمل هذه الأمانة الثقيلة، ونجح في تربيتهم وإعدادهم لهذه المهمة الضخمة، مهمة حمل الدين، ليس إلى أهل مكة أو إلى العرب فقط، بل إلى العالم أجمع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الــــدعــــوة ســــــــــــــرا




أطلال دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكة





رسم تقريبي لدار الأرقم بن أبي الرقم


اتَّخذ رسول الله منهجًا دعويًّا مهمًّا في بداءة هذه المرحلة؛

فبدأ بأقرب الناس إليه وألصق الناس إليه،

فدعا زوجته خديجة رضي الله عنها،

ثم صديقه الصِّدِّيق أبي بكر

ثم خادمه ومولاه زيد بن حارثة

ثم ابن عمه علي بن أبي طالب، الذي لم يكن قد تجاوز العاشرة من عمره،

ولكلِّ واحدٍ منهم قصَّة تُرْوَى وحديثٌ يُذْكَر.
وقد كان من الحكمة أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرِّيَّة؛

وذلك لئلاَّ يُفَاجَأ أهلُ مكة بما هو جديد وغريب على معتقداتهم،

وأيضًا حتى لا يُقضى على الدعوة في مهدها

وهو ما حدث في منهج الدعوة طيلة السنوات الثلاث الأولى من بدئها.
هذا، وقد نشط أبو بكر الصديق للدعوة بإيجابيَّة شديدة منذ أول يوم أعلن فيه إسلامه،


حتى أسلم على يديه عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عُبَيْدِ اللَّه، وأبو عُبَيْدَةَ بن الجراح، وهم من العشرة المبشَّرين بالجنة،


كما أسلم على يديه أيضًا عثمان بن مظعون، والأرقم بن أبي الأرقم، وأبو سلمة، إضافة إلى أهل بيته، وكذلك غلامه عامر بن فهيرة، والعبد الحبشي بلالُ بنُ رباحٍ الذي اشتراه ثم أعتقه
وكان أهم ما يُمَيِّزُ هذه المرحلةَ السرِّيَّة الحذرُ الأمنيُّ الشديد،


وقد بدا ذلك واضحًا في قصَّة إسلام بعض الصحابة، مثل عمرو بن عَبَسَةَ السُّلَمِيّ، وأبي ذَرٍّ الغفاري،


وكان من مظاهر السرِّيَّة في ذلك الوقت أيضًا اجتماع الرسول والصحابة في دار الأرقم بن أبي الأرقم ثلاث عشرة سنة دون أن يُكْتَشَفَ أمرهم،


وقد اعتمد الرسول في تربية المسلمين في هذه المرحلة على بناء العقيدة الصحيحة، وتعميق القيم الأخلاقيَّة الأصيلة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الــــجــهـــــــــــــر بــالـــدعـــــــــــــــوة

























بعد ثلاث سنوات كاملة من الدعوة السرِّيَّة وزيادة عدد المسلمين إلى نحو الستِّين

أَذِن الله لرسوله بالجهر بالدعوة، لتبدأ نَقْلَة جديدة في مرحلة الإعداد،

وفيها أُمر الرسول بأن يبدأ بأقربائه ثم بقيَّة الناس،

وهنا جمع الرسول أقربائه وبلغوا خمسة وأربعين رجلاً ليدعوهم،

إلا أن عمَّه أبا لهب ابتدره بقوله: "هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك، فتكلَّم ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة".

فسكت الرسول ولم يتكلم في هذا الجمع.
ثم جمعهم مرة ثانية وبادرهم بالحديث قائلاً:

"الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ، وَأُؤْمِنُ بِهِ وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ"،

ثم قال:"إِنَّ الرَّائِدَ لاَ يَكْذِبُ أَهْلَهُ، وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ خَاصَّةً وَإِلَى النَّاسِ عَامَّةً، وَاللَّهِ لَتَمُوتُنَّ كَمَا تَنَامُونَ، وَلَتُبْعَثُنَّ كَمَا تَسْتَيْقِظُونَ، وَلَتُحَاسَبُنَّ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَإِنَّهَا الْجَنَّةُ أَبَدًا أَوِ النَّارُ أَبَدًا".

وهنا أعلن عمُّه أبو طالب أنه سيقف بجانبه ناصرًا ومؤيِّدًا إلا أنه لن يترك دين عبد المطلب،

بينما كان موقف أبي لهب على العكس تمامًا حيث قال:

"هذه والله السوءَة، خذوا على يده قبل أن يأخذ غيركم"!
ثم نزل الأمر القرآني المباشر: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ} [الحجر: ، فكان ذلك إيذانًا بإعلان الدعوة للناس عامَّة، والإعراض عن المشركين،

بمعنى عدم قتالهم وتجنُّب الصدام معهم، فاستجاب رسول الله مباشرة،
وخرج ينادي قبائل قريش جميعًا من على جبل الصفا، ويقول له
"أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنْ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغْيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟" قالوا: نعم؛ ما جرَّبنا عليك إلا صدقًا. فقال : "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ".
فقال أبو لهب:
تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟!
فنزل قوله تعالى : {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد
وعلى الرغم من يقين مشركي مكة من صدق رسول الله ومعرفتهم أن ما جاء به هو الحق إلا أنهم لم يؤمنوا،
وقد تعدَّدت الموانع في ذلك عندهم، ما بين مَن منعته التقاليد كأبي طالب،
ومَن منعه الجبن كأبي لهب، ومن منعته القبلية كأبي جهل، ومن منعه الكبر والعناد، ومن منعه خوفه على ضياع السيادة والحُكم في قومه، وغير ذلك، وهم لم يكتفوا بهذا، بل بدءوا يُخَطِّطون ويُدَبِّرون للكَيْد لرسول الله وللمسلمين،
وسلكوا في ذلك سبلاً شتَّى ووسائل متعدِّدة،

اتَّسمت المرحلة الأولى في ذلك بالسلم، ثم أخذت طابع المفاوضات،

وانتهت بالإيذاء والتنكيل بالمؤمنين ليردُّوهم عن دينهم،

والذي لم يَزد المسلمين إلا إصرارًا على الحقِّ، وصبرًا على الإيذاء،

وضربوا في تلك المحنة أروع الآيات في الصبر وَتَحَمُّلِ الأذى في سبيل الله .
وكان بلال بن رباح ممَّن تَلَظَّى بسلسلة مضنية من التعذيب على يد أُمَيَّة بن خلف،

وعلى نفس الدرب كان ياسر وزوجه سميَّة والدا عمار بن ياسر

فقد وقعا تحت يدي رأس الكفر أبي جهل لعنه الله، فعذبهما تعذيبًا شديدًا
حتى قُتِلا في بيت الله الحرام جَرَّاءَ التعذيب والتنكيل،
ومثلهم كان خَبَّابُ بن الأَرَتِّ وكان المشركون يَجُرُّونَه من شعره ليضعوه على الفحم الأحمر الملتهب، ثم يضعون الصخرة العظيمة على صدره حتى لا يستطيع أن يقوم، وكذلك السيدة زِنِّيرَة والنَّهْدِيَّة وابنتها وأم عُبَيْسٍ رضي الله عنهن
،
حتى تحوَّلت مكة إلى سجن كبير تُهان فيه الإنسانيَّة، ويرتع فيه وحوش الكفر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الــــهـــجـــــــرة إلــى الــحــبــــشـــــــــة










رســالــة الــرســـول صـلــى الـلـه عــلــيــه وســلــم إلــى
الــنــجــاشــي مــلــك الــحــبـــشة

لما اشتدَّ الإيذاء والعذاب بالمسلمين جاءت الخطوة التكتيكيَّة من رسول الله

في محاولة منه للأخذ بأسباب الحفاظ على الدعوة الإسلاميَّة التي غدت مهدَّدة من قريش،

وذلك أنه مأمور بالكفِّ والإعراض عن المشركين،

فلم يكن الحلُّ إلا أن تهاجر تلك الطائفة المؤمنة بدين الله إلى مكان آخر،

فكانت الهجرة الأولى إلى الحبشة؛
حيث قال رسول الله لأصحابه: "لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى الْحَبَشَةِ؛ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لاَ يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ"،

وقد أمر أربعة عشر مؤمنًا بالهجرة، وكان على رأسهم

عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله ، وجعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله
وكان ذلك في السنة الخامسة من البعثة.
وعلى الرغم من خروج المسلمين خفية وأخذهم للحيطة والحذر، إلاَّ أن قريشًا كشفت أمرهم وخرجت في أثرهم،

فلم يكن من المسلمين إلا أن ابتهلوا إلى الله الذي أنجاهم بسفينتين كانتا على الميناء،

فانطلقوا آمنين إلى أرض الحبشة وأقاموا فيها في أحسن جوار.
وفي نفس هذه السنة التي تمَّت فيها الهجرة الأولى للحبشة خرج النبي إلى الحرم،

وكان هناك جمعٌ كبيرٌ من قريش فيه سادتها وكبراؤها، فقام فيهم وأخذ يتلو سورة النجم بغتة،

فلما باغتهم بتلاوة هذه السورة، وقرع آذانهم بهذا الكلام الإلهي الخلاَّب، تفانَوْا عمَّا هم فيه، وبقي كلُّ واحد مصغيًا إليه، لا يخطِر بباله شيء سواه، حتى إذا تلا في خواتيم هذه السورة قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم 62

وقد كانوا أشاعوا أنه قرأ آيات معيَّنة تُعَظِّم من شأن اللاَّت والعزَّى؛ ولذلك لمَّا جاءت آية السجود سجدوا تعظيمًا لآلهتهم!

ثم سجد لم يتمالك أحدٌ نفسه حتى خرَّ ساجدًا! وسُقِطَ في أيديهم، وقد توالى عليهم اللوم والعتاب من كل جانب ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين، وعند ذلك كذبوا على رسول اللَّه .
أما مهاجرو الحبشة، فإن هذا الخبر قد بلغهم في صورة أخرى، مفادها أن قريشًا أسلمت،


فرجعوا إلى مكة في نفس السنة التي هاجروا فيها،

ولما وصلوا قبل مكة وعرفوا حقيقة الأمر رجع منهم مَن رجع إلى الحبشة،

ولم يدخل في مكة من سائرهم أحد إلا مستخفيًا، أو في جوار رجل من قريش.
على أن المشركين عادوا إلى سابق عهدهم من إيذاء المسلمين، وخاصَّة بعد ما حدث من سجودهم في الكعبة،

وما بلغهم من استقبال النجاشي الحافل للمهاجرين،

ذلك الأمر الذي رفع معنويَّات المؤمنين وأغاظ المشركين، فأخذ رسول الله قرار الهجرة مرَّة ثانية إلى أرض الحبشة، والتي كانت أشقَّ من سابقتها؛ إذ إن قريشًا تيقَّظت لها وقرَّرت إحباطها،

بَيْدَ أن المسلمين كانوا أسرع، ويسرَّ اللَّه لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يُدْرَكُوا،

وقد بلغ عددهم قرابة المائة من الرجال والنساء.
وقد عزَّ على قريش أن يجد المسلمون مأمنًا لهم في الحبشة، فأرسلت رجلين لَبِيبَيْنِ هما
عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى النجاشي لإقناعه بأن هؤلاء المسلمين أعداء له قبل أن يكونوا أعداءً لهم، وأرسلت معهما الهدايا الثمينة للنجاشي ولبطارقته، حتى يردوهم.
ولكنَّ النجاشي العادل لم يرضَ إلا بأن يسمع من الطرف الآخر أيضًا،


فأرسل إلى المسلمين فتكلَّم نيابة عنهم جعفر بن أبي طالب، فقال:

أيها الملك، كنَّا قومًا أهل جاهليَّة، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار،

ويأكل منا القويُّ الضعيف، فكُنَّا على ذلك، حتى بعث اللَّه إلينا رسولاً منَّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته
فدعانا إلى الله لنوحِّده ونعبده، ونخلع ما كنَّا نعبد - نحن وآباؤنا - من دونه من الحجارة والأوثان،

وأَمَرَنَا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفِّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأَمَرَنَا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - وبذلك عدَّد عليه أمور الإسلام – فصدَّقناه، وآمنا به، واتَّبعناه على ما جاءنا به من دين اللَّه، فعدا علينا قومنا، فعذَّبونا وفتنونا عن ديننا، فلمَّا قهرونا وظلمونا وضيَّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك،

واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك.
ثم قرأ عليه جعفر صدرًا من سورة مريم فبكى النجاشي حتى أخضل لحيته،


وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم،

ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة،
انطلقا، فلا والله لا أسلِّمهم إليكما ولا يكادون. فخرجا.
وهنا قال عمرو بن العاص لعبد الله بن أبي ربيعة: والله لآتينَّهم غدًا بما أستأصل به خضراءهم.
فلما كان الغد قال للنجاشي: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيمًا.

فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن ذلك، فقال له جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبيُّنَا

هو عبد الله ورسوله، وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

فأخذ النجاشي عودًا من الأرض، ثم قال: واللَّه ما عدا عيسى ابن مريم ما قُلْتَ هذا العود.
ثم قال لحاشيته: ردُّوا عليهما هداياهما،

فلا حاجة لي بها، فواللَّه ما أخذ الله منِّي الرشوة حين ردَّ عليَّ مُلْكِي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه. قالت أم سلمة التي تروي هذه القصة: فخرجا من عنده مقبوحَيْنِ مَرْدُودًا عليهما ما جاءا به، وأقمنا نحن عنده بخير دار مع خير جار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الــــــدعــــــوة جـــــهــــــــــرا





بين هجرة الحبشة الأولى والهجرة الثانية حدث في مكة خطبٌ جلل غَيَّرَ الكثير في مسيرة الدعوة الإسلاميَّة،


وقد تمثَّل في

إسلام حمزة بن عبد المطَّلب عمِّ رسول الله الذي كان أكثر الناس عزَّة ومنعة، وأقواهم بأسًا وشكيمة، ليصبح بعد ذلك أسد الله
.
ثم إسلام عمر بن الخطاب بعده بثلاثة أيَّام فقط، والذي لقَّبه الرسول بالفاروق؛

إذ فرَّق الله به بين الحقِّ والباطل، وبين مرحلتين من تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة،

فمنذ اللحظة الأولى لإسلامه لم يستطع عمر أن يكتم إيمانه، فتوجَّه لرسول الله وسأله: ألسنا على الحقِّ؟

قال له رسول الله : نعم. قال: ففيم الاختفاء؟ فوافقه رسول الله على الإعلان،

ومِن بعدها سيبدأ ظهور الإسلام والمسلمين في مكة، وستؤدَّى الشعائرُ أمام أهل مكة في وضح النهار،

وبهذا يكون عمر هو الذي اخْتُصَّ بدعوة الرسول "اللَّهُمَّ أَيِّدِ الإِسْلامَ بإحدى العمرين

بِأَبِي الْحَكَمِ عمرو بْنِ هِشَامٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ"

هذا، وبعد إسلام هذين البطلين الجليلين ظهر الإسلام في مكة، وأعلن كثيرٌ من المسلمين إسلامهم،

ولم يجد المشركون بُدًّا من استعمال طريقة أخرى بدلاً من التعذيب، فكانت مساومة النبي ليكفُّوه عن دعوته؛
فقام أحد كبرائهم - وهو عتبة بن ربيعة - إلى رسول الله فعرض عليه المال والسيادة والمُلْكِ على قريش والعرب كلها، أو أن يحضروا له أمهر الأطباء لمعالجته إن كان ما يقوله بسبب مرض أو مسٍّ من الجنِّ

إلاَّ إن رسول الله أجابه بكلام الله حيث قرأ آياتٍ من سورة فصلت، أُخِذَ بها عتبة وَبَهَرَتْهُ كلَّ الإبهار،

فقام من فوره إلى قومه وعيناه زائغتان، حتى دخل على زعماء قريش،

ولم يكن الأمر يحتاج إلى كثير ذكاء حتى يعرف الجميع ما حدث،

حتى لقد قال بعضهم: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به،

وحين جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ وبلسان عجيب وفي غاية الصدق، بدأ أبو الوليد عتبة يحكي تجرِبته
ويقول: لقد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قطُّ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة،


يا معشر قريش: أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه،

فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم،


فإن تُصِبْه العرب فقد كُفِيتُموه بغيركم،


وإن يَظهر على العرب فمُلْكُه مُلْكُكُم وعزُّه عزُّكم، وكنتم أسعد الناس به.


وفي ذهول تامٍّ ردُّوا عليه، وقالوا: سَحَرَك والله يا أبا الوليد بلسانه.


فأجابهم: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يــتـــبــــع مــــا قــبــله ومـــا بــعـــده بــإذن الــلــه